من أسوأ الأمور فى هذه الحياة أن تكون فقيرا فى بلد غنى، أو حسن الخلق فى
وطن تعكر مزاجه وفسدت أخلاقه، هذا ما يحدث الآن فى مصر، فما حدث أمس فى
استاد المنصورة لا يدعو للسخرية من هؤلاء الذين تقاتلوا وتزاحموا من أجل
شنطة رمضان التى لا يعلمون إذا كانت ستكفيهم أم لا، هذا المشهد دعوة للحزن
وتجرع المرارة، على شعب أصبح يضرب بعضه بعضاً من أجل الفتات، شعب أصبح على
يقين بأن لقمة العيش تساوى طلوع الروح ونزف الدماء، هذا المشهد هو عار
الحكومة التى حاولت أن تخفيه وراء الإنجازات الوهمية، وأرقام النمو
الكاذبة، وبيانات الرخاء الخادعة.
أكثر ما يعبر عما حدث أمس بالمنصورة هو أن مصر المغتصبة تمخضت عن طفلها من
السفاح، وها هى الآن تلقيه فى وجوهنا لنتحمل وزر بنوته، من لهؤلاء الفقراء
الذين يعلم كل منهم أن رمضان هو مناسبة روحية، ولكن صراخ البطن لا يبقى فى
الروح مساحة للتنفس، املأ بطنك أولاً ثم تحدث بعد ذلك عن الروحانيات، وها
هى فرصة مجانية للحصول على شىء مجانى من الحكومة، من يخبر هؤلاء أن هذه
حكومة لا تعطى بالمجان، إنها فقط تتحسس لخطوة قادمة، أو بالأدق، تتأكد من
أن الشعب مازال يفكر فى بطنه أولا، وأن فقره يلهيه عن أى شىء، فطوبى للحزب
الوطنى ولا عزاء للبرادعى وأنصار التغيير.
أنا لا أنكر أننى ابتسمت لأول وهلة عندما رأيت صور المتزاحمين حول استاد
المنصورة، ولكنها ابتسامة لم تدم طويلا عندما تخيلت نفسى أو أحداً من أهلى
بين هؤلاء، وهو يتصبب عرقا، منتظرا أول فرصة لكى ينجو بشنطة رمضانية من بين
آلاف الأجساد التى تزاحمه، خاصة وأن من يدخل فى تلك المعمعة لا يبغى ترفا
أو نزهة، ولا يستطيع أحد أن يدعى أنه يريد شيئاً زائداً عن حاجته، تلك
الشنطة تحمل مقتضيات حياة لكل من يحصل عليها، فالبلح غريزة أساسية،
والمكرونة طوق نجاة لمن لا يجد الخبز، وقمر الدين لفرحة العيال، وما زاد
على ذلك فهو للزمن وكبسات الضيوف.
تلك الصور بالأمس وضعت مسماراً فى نعش الحكومة الذكية، التى لا تستحق هذا
اللقب، وإلا ما كان لرئيس الوزراء أحمد نظيف أن ينام قرير العين، وهو يرى
من يداسون بالأقدام فى عز الحر من أجل 50 جنيهاً، وما كان له أن يستسيغ
طعامه الفاخر، وهؤلاء يتجرعون الذل والقهر، لكن ماذا أقول وبلادة الإحساس
أصبحت شعار المرحلة، فإذا كان النظام يحمى حكومته التى أفقرت شعبه، فلهؤلاء
رب يحميهم، فالشعوب باقية والحكومات لا تدوم.